الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فأمّا اجتناب مماسّة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطّخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو ممّا اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة، حملًا للفظ الرجس على جميع ما يحتمله.وهو قول مالك.ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر.وليس في الأثر ما يحتجّ به لنجاسة الخمر.ولعلّ كون الخمر مائعة هو الذي قرّب شبهها بالأعيان النجسة، فلمّا وُصفت بأنّها رجس حُمل في خصوصها على معنييه.وأمّا ما ورد في حديث أنس أنّ كثيرًا من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها لذلك من المبالغة في التبرّىء منها وإزالة أثرها قبل التمكّن من النظر فيما سوى ذلك، ألا ترى أنّ بعضهم كسر جرارها، ولم يَقُل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس.على أنّهم فعلوا ذلك ولم يُؤمروا به من الرسول صلى الله عليه وسلم.وذهب بعض أهل العلم إلى عَدم نجاسة عين الخمر.وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والليث بن سعد، والمُزني من أصحاب الشافعي، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين؛ منهم سعيد بن الحَدّاد القيرواني.وقد استدلّ سعيد بن الحدّاد على طهارتها بأنّها سُفِكت في طرق المدينة، ولو كانت نجسًا لنهوا عنه، إذ قد ورد النهي عن إراقة النجاسة في الطرق.وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنّه أقام قولًا بطهارة عين الخمر من المذهب.وأقول: الذي يقتضيه النظر أنّ الخمر ليستْ نَجَس العين، وأنّ مسَاق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها، إنّما القصد أنّها رجس معنوي، ولذلك وصفه بأنّه من عَمَل الشيطان، وبيّنه بعدُ بقوله: {إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة}، ولأنّ النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنّما تنزّه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس. اهـ.
.قال الشنقيطي: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} الآية.يفهم مِن هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال: إنها رجس، والرِّجْس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس.وقيل: إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن. قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنَّة: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليستْ كذلك، ومما يؤيِّد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47]، وكقوله: {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} [الواقعة: 19]، بخلاف خمر الدنيا ففيها غَوْل يغتال العقُول وأهلها يصدَّعون. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله: {وَلاَ يُنزِفُونَ} على قراءة فتح الزاي مبنيًا للمفعول، فمعناه: أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران، ومنه قول حميد بن ثور:يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران، وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه: فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له، ومنه أيضًا قول امرئ القيس: وقوله أيضًا: وقول ابن أبِي ربيعة أو جميل: وعلى قراءة {يُنزِفُونَ} بكسر الزاي مبنياَ للفاعل، ففيه وجهان من التفسير للعلماء:أحدهما: أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر. ونظيره قولهم: أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه، وهذا القول معناه راجع إلى الأول.والثاني: أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم، ومنه قول الحَطيئة: وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا، وخالف في ذلك ربيعة واللَّيث، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخِّرين من البغدادِيِّين والقرويِّين، كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره.واستدلُّوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قِمار وأنصاب وأَزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرَّمة الاستعمال.وأُجيب من جهة الجمهور بأن قوله: {رِجسٌ} يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخْرجه إجماع، أو نصّ خرج بذلك، وما لم يخْرجه نصّ ولا إجماع، لزم الحكم بنجاسته، لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصّص من المخصصات، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود: وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوى اليوم بالتطيُّب به المعروف في اللِّسان الدارجي بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر: {فاجتنبوه} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المُسكر، وما معه في الآية بوجه من الوجوه، كما قاله القرطبي وغيره.قال مُقيِّده عفا الله عنه: لا يخفَى على منصف أن التضمخ بالطِّيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته. واستحسانه مع أنه مسكر، والله يصرح في كتابه بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربَّه يقول فيه: إنه {رِجْسٌ} كما هو واضح، ويؤيده «أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر» فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها، كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها.واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد القروي على طهارة عَين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة، لما فعلوا ذلك ولَنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها، لأن المدينة كانت واسِعة، ولم تكُن الخمر كثيرة جِدًا بحيث تكون نَهرًا أو سيلًا في الطرق يَعمُّها كلها، وإنما أُرِيقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، قاله القرطبي، وهو ظاهر. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}.الخمر ما خامر العقول، والخمر حرام.والإشارة فيه أنه يزيد نَفَادَ العقل بما يوجب عليه من الالتباس.ومَنْ شَرِبَ من خمر الغفلة فسُكْرُه أصعب؛ فشرابُ الغفلةِ يوجب البعد عن الحقيقة.وكما أن من سَكِرَ من خمر الدنيا ممنوعٌ عن الصلاةِ فمن سَكِرَ من خمر الغفلة فهو محجوبٌ عن المواصلاتِ.وكما أنَّ مَنْ شَرِبَ من خمر الدنيا وجبَ عليه الحدُّ فكذلك من شَرِبَ شرابَ الغفلة فعليه الحَدُّ إذ يُضْرَبُ بسياط الخوف.وكما أنَّ السكرانَ لا يُقامُ عليه الحدُّ ما لم يُفِقْ فالغافل لا ينجح فيه الوعظُ ما لم ينته.وكما أن مفتاحَ الكبائر شربُ الخمر «فالغفلة»، أصلُ كلِّ زَلَّة، وسببُ كلِّ ذِلَّة وبدءُ كل بُعْد وحجبة عن الله تعالى.ويقال لم يحرم عليه الشرابَ في الدنيا إلا وأباح له شرابَ القلوب؛ فشراب الكبائر محظور وشراب الاستئناس مبذول، وعلى حسب المواجد حظى القوم بالشراب. اهـ..من فوائد القرطبي في الآية: قال رحمه الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)}.فيه سبع عشرة مسألة:الأُولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ} خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء؛ إذ كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نَفِيٌّ منها في نفوس كثير من المؤمنين.قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هَوَى الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم.وأما الخمر فكانت لم تُحرّم بعد، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاثٍ بعد وقعة أُحُد، وكانت وقعة أحد في شوّال سنة ثلاث من الهجرة.وتقدّم اشتقاقها.وأما «الميسر» فقد مضى في «البقرة» القول فيه.وأما الأنصاب فقيل: هي الأصنام.وقيل: هي النَّرْد والشَّطْرَنْج؛ ويأتي بيانهما في سورة «يونس» عند قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32].وأما الأزلام فهي القِداح؛ وقد مضى في أوّل السورة القول فيها.ويقال: كانت في البيت عند سَدَنة البيت وخُدّام الأصنام؛ يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئًا؛ فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره.الثانية تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] أي في تجارتهم؛ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فتركها بعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} الآية فصارت حرامًا عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئًا أشدّ من الخمر.وقال أبو مَيْسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب؛ فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها وقال؛ اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا.وقد مضى في «البقرة» و«النساء».وروى أبو داود عن ابن عباس قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} و{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} نسختها التي في المائدة {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب}.
|